مقالات نوثيتيكية

الإله الشخصيّ

الإله الشخصيّ

بقلم ديفيد باوليسون

إلهنا يأخذ الأمور على محمل شخصي فيما يتعلق بأولاده.

عندما نقول كمسيحيين إننا نعرف ونخدم “إلهًا شخصيًّا” فنحن نقدّم تصريحًا لاهوتيًّا، نعترف فيه بإيماننا. والإله المُعلن عنه في الكتاب المقدّس هو إله شخصي – في الواقع، إله واحد في ثلاثة أقانيم/أشخاص. إنه ليس فكرة غامضة أو قوة لا شخصية. إنه عبارة عن محبة، وشركة، وحميمية، ومبادرة وتعاون بداخل كينونته وكذلك معنا. ولأنه شخص، فله أسماء عديدة. وكل اسم حقيقي. كل اسم يقدم لنا صورة عن هويته وماهيته. إنه يعمل، ويتكلّم. إنه هذا الشخص الذي لا يُسبر غوره بعد معرفته. إنه يفكر. ويخبرنا بما يفكر فيه، حتى يمكننا أن نعرف. ورغم ذلك فإن أفكاره خفيّة، فلا نعرفها. إن الإعلان الذي نعرفه عبارة عن جزيرة من النور… في محيط من النور مُشرقٍ بشكل لا يمكن استيعابه. إن ما نظنه غامضًا ليس ظلامًا، بل إشراقًا لا يمكن لعيوننا أن تتحمله، إشراقًا يشعُّ عبر طيف يمتد لأبعد مما يمكن لعيوننا أن تدركه. إن الأواني الخزفية لا يمكنها أبدًا أن تفهم خزّافها، رغم أنها تعرف الكثير من لمساته التي تُشكلها. إنه حكيم. إنه يحكم بشكل فعّال. إن يد عنايته رؤوفة وعادلة. إنه يمنح الحياة. إنه يبني ويُغذي. إنه يهدم ويقتل. إنه يجدد. إنه يقوم بأمور يفعلها شخص. وفي ملء الزمان، أصبح لنا الامتياز أن نعرفه من الناحية الشخصية والحميمية والعائلية. إنه … أبونا. إنه … مُخلّصنا وربّنا. إنه … الروح القدس الخاص بنا. فأنا وأنت أشخاص لأنه هو شخص.

وإلهنا الشخصي ليس ببساطة الإله الذي نصفه ونشهد عنه. فهو يأخذ الأمور على محمل شخصي. هو- الذي- يتحدث إلينا ويتصرف عن قصد نيابة عنا. ذاك كلّي الإخلاص يعمل معنا. فكل الخدمة تعتمد عليه عندما يأخذ الأمور على محمل شخصي. فنحن بحاجة إلى حضوره الفوري، وصوته المنعش ويده القديرة. وفي خدمات المشورة فإن حضوره وصوته ويده المبادرين هي الأمور التي تصنع الفرق. أبي، من فضلك ارعَ هذه الكرمة. ربّي ومخلّصي، من فضلك قُدنا. أيها الروح، احينا واجعلنا مثمرين. فلتكن مسرّتك أن تظهر نفسك.

وهو يستجيب.

ولأنه لا يوجد شخصان ولا موقفان متشابهان تمامًا، فإن الله يضفي الطابع الشخصي على الطريقة التي يتصرّف ويتحدث بها. وعندما نصِف ونشهد عن إلهنا، قد يبدو الأمر ساكنًا. لكنه متواصلٌ بشكل متحرّك مع كل فرد من أفراد شعبه. قد يبدو وكأنه الخالق منذ قديم الأزل. لكنه أيضًا لازال يخلق ويعيد خلق شعبًا لنفسه. قد يبدو الأمر وكأنه سوف يصبح الديان في نهاية الزمان. لكنه يستمر أيضًا في الدينونة كيما تسود خطته في حماية ومجد شعبه. قد يبدو الأمر وكأنه كان المُخلّص في وقت ما عندما مات وأقيم منذ زمن طويل، وأنه سوف يُخلّص مرة أخرى عندما يعود في المستقبل. لكنه يستمر في خلاص أبنائه وبناته عن طريق تحويلهم لصورة ابنه. إنه يأخذ الأمور على محمل شخصي – مع الجميع، مع مَن يشتاقون إليه ومع مَن يتمنون أن يشتاقوا مرة أخرى.

ها هي ثلاثة أمثلة تُظهر الطرق الشخصية التي يتواصل بها الله مع أناس محددين.

أولاً، كنت أشعر أنا وزوجتي بالاحتياج للتجديد. فإن الضغوط التي كنا نواجهها – العائلة والمنزل والعمل والصحة – كانت تُثقل على قلوبنا. كانت الحياة تبدو مبعثرة بشدة. وكان من الصعب للغاية أن نتوقف… لكن وقتها نتوقف بالفعل. ونأخذ الأمور على محمل شخصي. فنتحدث ونفكر بعمق. ونسعى للمساعدة وطلب وجهه. ونقرع بابه. ووقتها يستجيب الإله الذي هو حكمة وحياة ويُرحّب بحرارة. ففي هذا الأسبوع، إحدى العلاقات التي ظلت متجمّدة لفترة طويلة قد ذابت. ولم تظهر أية تقارير تلفزيونية لتوثيق هذا الحدث، لكن السماء ابتهجت وأُثلجت صدورنا نحن. الله يستجيب. فهو يُشرك نفسه في تفاصيل حياتنا، ووقتها نجد معنًى لحياتنا. ونفهم بطريقة جديدة كيف تتكشف حياتنا وحياة الآخرين – سواء مؤمنين أو غير مؤمنين – بالطريقة التي يرسمها النص الكتابي.

وعندما يتولى هو زمام الأمور، فإن كل الأمور تسير بالسرعة الصحيحة – “بوتيرة فخمة”، كما يحب أن يُسميها احد الأصدقاء، وليس بشكل مبعثر جنوني. ووقتها نصبح في حجمنا الصحيح. وتصبح الضغوط في حجمها الصحيح. ويصبح إلهنا في حجمه الصحيح. فنحن صغار؛ والضغوط كبيرة؛ لكن الله أعظم منها. إن كلماته تقدم حياة ومعنًى وصلة بالواقع. إن كلمات الله لـزوجتي ولي هذا الأسبوع كانت من يوحنا 11 عندما كنت أوشك على اجتياز عملية جراحية (هناك المزيد حول هذا المقطع بعد قليل). هذا الذي هو “القيامة والحياة” قابل زوجتي ومنحها صبرًا هادئًا بدلاً من القلق. وقابلني ورفع حملاً من الشكوك. نفس الكلمات منحت كل منا عطية مختلفة بشكل ما، لأنه منح خدمة محبته بالشكل الذي يختلف فيه كل منا عن الآخر. لقد قابَلَنا معًا، ومن خلال بعضنا البعض، لأننا لسنا مختلفين إلى هذا الحد. إنّ نفس الإله ونفس الحق يتواصلان معنا بشكل واقعي بغض النظر عن اختلافنا عن بعضنا البعض.

ثانيًا، إن القصص الموجودة في الإنجيل تصوّر براعة تعامل يسوع مع الناس. كنتُ أفكر في زوجين من التفاعلات وكيف يظهران يسوع وهو يأخذ الأمور على محمل شخصي.

المجموعة الأولى من التفاعلات نجدها في الإنجيل بحسب ما كتب لوقا. في لوقا 7-8، يأتي بعض الناس ليسوع بسبب احتياجاتهم ويضعون ثقتهم فيه. بينما يشعر آخرون بالإهانة من يسوع ويصبحون عدائيين. ومن بين هؤلاء الذين يثقون به امرأتان، الواحدة خاطئة (لوقا 7: 36-50) والأخرى متألمة (لوقا 8: 43-48). وتختلف احتياجاتهنّ والمخاطر التي تتعرض لها كل منهنّ. وتختلف أسباب شعورهنّ بالخجل والانعزال المجتمعي. ويتكشف كل تفاعل عبر مسار مختلف. إن الجمهور حول يسوع يرحّب بتحرير المرأة المعروفة بأنها “خاطئة” من الذنب والخزي والعار. والجمهور حول يسوع يرحّب بتحرير المرأة المعروفة بأنها “غير نظيفة” من العار والانعزال والتكاليف الطبية المُفقرة. والأشخاص الآخرون الموجودون في كل قصة مهمون. ففي القصة الأولى، دُعي الشكاكون ذوو البر الذاتي. وفي القصة الثانية، يعاين الجمهور المُتحمّس قوة يسوع. ورغم أن خبرة كل امرأة في خلاصها تختلف عن الأخرى، إلا أن يسوع يختم الحوار مع كل منهما بنفس الكلمات: “إيمانك قد خلّصك، اذهبي بسلام.” إن شُحنة المعاني التي تحملها هذه الكلمات الخمس أصبح شخصيًا للغاية.

لقد ازددنا غنًى برؤيتنا مسارين لكلمات وأفعال المسيح الرحيمة.

ونجد الزوج الآخر من التفاعلات في الإنجيل بحسب ما كتب يوحنا. فعبر يوحنا 11، يأتي بعض الناس ليسوع بسبب احتياجاتهم ويضعون ثقتهم فيه. بينما يشعر آخرون بالإهانة من يسوع ويصبحون عدائيين. ومن بين هؤلاء الذين يثقون به أُختان، الواحدة تدعى مرثا (يوحنا 11: 20-27) والأخرى تدعى مريم (يوحنا 11: 28-46). وقد مات أخوهما منذ أربعة أيام، ونجد أن كلماتهما الافتتاحية الموجهة ليسوع متطابقة: “يا سيد، لو كنت ههنا لما مات أخي.” لكن كل ما يتعلق بقصتيهنا يختلف تمامًا. ففي مشهد مرثا، نرى أن وجود التلاميذ له أهمية كبيرة. إنهم متأكدون أن هناك موت أكيد ينتظرهم على الجانب الآخر من جبل الزيتون. ونرى دوافع مرثا واضحة. إن وجود الرب كان من الممكن أن يصنع اختلافًا، وها هي تكشف عن حلها العملي. إنها تؤمن أنه حتى الآن فإنه يستطيع أن يتصرف نيابة عن أخوها الميت. وكيف يستجيب يسوع؟ إنه يُشرك مرثا في حوار شخصي هادف. فهو يُغني عمق اللاهوت والاستعداد الشخصي لإيمانها فيه. والتلاميذ الذين استمعوا للحوار تعلموا شيئًا أيضًا. “أنا هو القيامة والحياة…” ويتحدث اعتراف مرثا الواضح بإيمانها لما سوف يتكشف بعد قليل على الجانب الآخر من جبل الزيتون.

وعندما تتقابل مريم مع يسوع، فإنها تقول نفس الكلمات مثل أختها. لكنها تسقط عند قدمي يسوع تبكي وتنتحب. إن وجود الرب كان من الممكن أن يصنع اختلافًا، لكن كل ما هو مسيطر الآن هو الحزن. ومَن أتوا لمواساتها يبكون أيضًا. وكيف يستجيب يسوع؟ هذه المرة لا يوجد نقاش لاهوتي ودعوة للإيمان. أصبح يسوع عاطفيًا بشدة. أصبح يشعر بعمق الأسى والانزعاج – حزينًا ومتألمًا لموت صديقه، ولحزن مريم والآخرين. وسريعًا بكى يسوع. ثم تصرّف بعدها، مقيمًا لعازر، ومُعيدًا أخًا لأختيه. وبعض ممن شاهد ما حدث آمن. وقرر آخرون أن يثرثروا لرجال اعتزموا أن يقتلوا يسوع. لقد افتتحت مرثا ومريم حوارًا بنفس الكلمات الثماني. لكن الطريقة والدافع التي تحدثت كل منهما بها كانت مختلفة، وكل ما قاله وفعله يسوع كان شخصيًا للغاية.

من خلال كلماته وأفعاله، فإن يسوع يعتبر مشيرًا ماهرًا بشكل رائع، يقدّم باقتدار لكل شخص ما يحتاج إليه. فهو يقدم الغفران للخاطئة – وفي نفس الوقت، توبيخًا لأصحاب البر الذاتي. ويقدم شفاءً للمتألمة – والتي عندما سجدت على ركبتيها شهدت لكل مَن سمع. كما إنه يعمّق إيمان صديقة احتاجت أن تنظر للصورة الأكبر – وإيمان تلاميذه، الذين لديهم نفس الاحتياج، أُتيحت لهم فرصة للاستماع. لقد بكى مع الباكين عند الفراق – ثم تصرف ليعلن مجد الله، لكي يؤمن به الجميع. لا توجد إجابة جاهزة وإجراءات موحّدة عندما يلتقي يسوع بشخص ما، لأن نفس الكلمات تحمل معنىً مختلفًا حسب كل شخص.

ثالثًا، في السنوات القليلة السابقة، تقابلت وسمعت عن كثير من أطباء وعلماء النفس المسيحيين المؤمنين الذين أصبحوا ملتزمين بحزم وعمق نحو المشورة الكتابية. مَن كان يمكنه التنبؤ بذلك؟ إن هذا المد المتزايد من الاهتمام يبرهن على لمسة الله الشخصية. وعندما تغيرك كل من يده وصوته بشكل شخصي، فإنهما يضغطان عليك في اتجاه فهم مسعى المشورة كخدمة المسيح. وتُقاس صحة الخدمة بمدى تماسكها مع أهداف النص الكتابي ونظرته الكونية. إن الرجال والنساء المسيحيين المؤمنين الذين وجدوا أن خبرة حياتهم لا تنفصل عن المسيح يرغبون في مساعدة باقي المقاومين بنفس الطريقة.

إن القصص التي يرويها هؤلاء المتخصصون في المرض العقلي عبارة عن تنوعات حول موضوع واحد. فكلها تتميز بجودة شخصية ودلالية. وأنا أتجاوب مع قصصهم، لأني كنت متخصصًا في علم النفس بجامعة هارفارد، وعملت لمدة ثلاث سنوات في جناح المرضى الداخليين بمستشفى ماكلين، وكنت أنوي الدراسة والعمل كطبيب نفسي اكلينيكي. لقد غيّرت توجه حياتي عندما أصبحت مسيحيًا مؤمنًا، لنفس الأسباب التي يعيد من أجلها مسيحيون مؤمنون آخرون التفكير في توجههم المهني.

وإليك كيف يحدث التغيير. إن البذور تُزرع عندما تسمع لكلمة الله تتحدث بملاءمة شخصية هادفة. فالحق المسيحي يهبط بطريقة منعشة. إن الله يتحدث عن أمور تتلاءم بشكل مباشر مع ما تواجهه: ضغوط ومسؤوليات الحياة، مشكلاتك ومعاناتك، الأصوات والنظريات المتنافسة، احتياجات هؤلاء الذين تقوم معهم بالمشورة. إن الله يتحدث عن أمور تتلاءم بشكل مباشر مع ما تحياه: نحن خطاة، في نهاية الأمر، ليس بشكل عام لكن بتفاصيل متأصلة بعمق. إن الله يتحدث عن أمور تتلاءم بشكل مباشر مع جوهر آمالك وهويتك: نحن أولاد أحباء. إنه يتواصل بشكل مباشر مع حالتك كشخص، ومع ما كنت تقوله في الواقع للآخرين في المشورة. إنه مهم. إنه يلاحقك. إنه يقابلك. ووقتها تجد أن أعمق صراعاتك الشخصية وأعنف مشكلاتك الظرفية بدأت تبدو مختلفة. يجب أن تتغير مشورتك عندما يصبح المسيح ملائمًا بشكل لا مفر منه لما يؤرق البشر. هذا هو نوع القصص التي نشارك بها، رغم أن طريقة مقابلته وتفاعله مع كلٍ منا تعتبر قصتنا بحد ذاتها.

وفي حالتي، وعبر ثمان سنوات من الدراسة والتدريب والقراءة المطّلعة والعمل في صحة المرضى العقليين لم اسمع تعليقًا واحدًا يلمِّح أن يسوع المسيح والنص الكتابي قد يكونان أمران مهمان في فهم ومساعدة الأشخاص الذين يعانون. لم يتحدث أي شخص عن هذه الأمور في خبرتي الدراسية أو دائرتي المهنية. لكن المسيح تعامل معي بشكل شخصي. فالله يقول الكثير عن نفسه، وعن أهدافه، وعما يفعله، وعن الخير والشر، وعن الحياة والموت… وتجد أن المعنى يتغير عندما تأخذ الأمور بشكل شخصي وتفهم أنه يحدّثك أنت بهذه الأمور. إنه يصنع اختلافًا نوعيًا: “من له أذنان للسمع…” فتحيا عندما تسمع أذنيك. فتستيقظ بشكل متزايد على حقيقة أننا كلنا نحيا في كون شخص آخر. إن مخافة الرب حقًا رأس الحكمة. إن لمسة الله الشخصية هذه هي السبب وراء رغبة عدد متزايد من أطباء وعلماء النفس المسيحيين المؤمنين أن يجعلوا النص الكتابي يعيد توجيه حكمتهم الإكلينيكية ونظرياتهم وممارستهم.

الله يصنع فارقًا بين الموت والحياة في الناس. لذلك يصنع فارقًا بين الموت والحياة في خدمة المشورة الشخصية. فنحن مَن نُدعى كنيسة لدينا الامتياز والدعوة لنُعيد المشورة إلى مكانها الصحيح كواحدة من خدماتنا الجوهرية.

***

ديفيد باوليسون (حاصل على ماجستير، ودكتوراه في العلوم اللاهوتية) هو المدير التنفيذي لهيئة CCEF ومحرر دورية المشورة الكتابية.

قامت خدمة ذهن جديد ومركز دراسات المشورة الكتابية بطباعة ونشر عدة كتب لــ ديفيد بوليسون.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى