Desiring Godمقالات

الصبر سيكون مؤلمًا: كيف تحب أولئك الذين تصعُب محبَّتهم

الصبر فضيلة نقدِّرها، بل ونتطلَّع إليها، من بعيد. ولكن كلما اقترَبت منَّا –كلما اخترقت جدول أعمالنا، وخططنا، وراحتنا– كلما أصبحت غير مريحة.

الصبر يوجد فقط في عالمٍ من الإزعاج والتأخير والإحباط، وينمو فقط في أرض المعركة. لا نقدر أن نمارس الصبر ما لم تستدع ظروفنا أن نمارسه –والظروف التي تستدعيه هي من نوعيَّة الظروف التي لن نختارها لأنفسنا. فنحن نختار السهولة والسرعة والكفاءة والشعور بالشبع. كثيرًا ما يختار الله ظروفًا تستدعي الصبر. وهو لا يختار بشكلٍ خاطئٍ البتَّة.

ينبثق عدم الصبر من عدم استعدادنا لأن نثق في توقيت الله لحياتنا ونخضع له. عدم الصبر هو حرب للسيطرة. أمَّا الصبر، من الناحية الأخرى، فينبت من تربة مختلفة –من قبولنا باتِّضاع لما لا نعرفه ولا نقدر أن نسيطر عليه، ومن ثقة عميقة وثابتة بأنَّ الله سيحقِّق كل وعوده، ومن قلب يشعر بسعادة عميقة بالله.

بعبارة أخرى، تأتي أعمق أشكال الصبر من الفرح المُتَّضع الذي يرجو الله فوق أيِّ شيءٍ آخر. وهذا يعني أن الصبر الحقيقي ليس فقط شاق وصعب ومتعب، بل ومستحيل من الناحية الإنسانيَّة. نوع الصبر الذي يكرم الله صعب جدًّا، لدرجة أنه لا يمكننا ممارسته دون معونة من الله. إذ إنه ينمو فقط حيث يسكن الروح القدس.

ظلال كثيرة للصبر

ما الذي يمكننا قوله إذن، من الناحية العمليَّة، عن الصبر الحقيقي في الحياة الواقعيَّة؟ أين يمكننا النظر في الكتاب المقدَّس لنرى بعض أنواع ومكوِّنات الصبر عمليًّا؟ هناك آية واحدة بالذات تُشعِرني بالاتِّضاع وتتفجَّر بالدروس الخاصَّة بالصبر على المستوى اليومي:

وَنَطْلُبُ إِلَيْكُمْ أَيُّهَا الإِخْوَةُ: أَنْذِرُوا الَّذِينَ بِلاَ تَرْتِيبٍ. شَجِّعُوا صِغَارَ النُّفُوسِ. أَسْنِدُوا الضُّعَفَاءَ. تَأَنَّوْا عَلَى الْجَمِيعِ. (1 تسالونيكي 5: 14)

تختلف الطريقة التي ندنو بها من كل مجموعة –أولئك الذين هم بلا ترتيب، وصغار النفوس، والضعفاء– ولكننا مدعوُّون للصبر معهم كلهم. ما لا يعني أنه من المرجَّح أن نشعر بإغراء ألَّا نكون صبورين معهم كلهم (ومع كثيرين غيرهم). فكيف يبدو الصبر في كل حالة؟

أسنِدوا الضعفاء

يمتحن الضعفاء صبرنا لأنهم يحتاجون منَّا أكثر من معظم أنواع البشر الآخرين. كثيرون منَّا لديهم الدافع، على الأقل في هذه اللحظة، أن يخطوا في المشهد عندما يرون شخصًا ضعيفًا في احتياج، سواء كان هذا الشخص صغيرًا أو كبيرًا أو عجوزًا أو مريضًا أو ضعيفًا، من الناحية العاطفيَّة أو الروحيَّة. ولكن الضعف، كما نعرف كلنا من خبرتنا الشخصيَّة، نادرًا ما يكون من الممكن احتوائه، وهو ما يعني أن الضعفاء يحتاجون أكثر من مجرَّد المعونة الوقتيَّة؛ إنهم يحتاجون إلى معونة طويلة المدى –والمعونة طويلة المدى تتطلَّب صبرًا.

بولس لا يكلِّف الكنيسة بأن تنذر الضعفاء، بل أن تسندهم. والكلمة المترجمة “أَسْنِدُوا” هنا يمكن أن تعني أيضًا التمسُّك والثبات، أو أن يكون المرء مُخلِصًا. هناك إصرار في هذه المعونة، التصاق بالضعيف، حتى ولو مرَّت شهور أو سنوات من عدم الراحة والتضحية. من أين يأتي هذا النوع من الصبر؟ من تلك المعرفة بأنَّ “الْمَسِيحَ، إِذْ كُنَّا بَعْدُ ضُعَفَاءَ، مَاتَ فِي الْوَقْتِ الْمُعَيَّنِ لأَجْلِ الْفُجَّارِ” (رومية 5: 6) –بعبارة أخرى، لقد مات من أجلنا. وأنَّ الله اختار “جُهَّالَ الْعَالَمِ لِيُخْزِيَ الْحُكَمَاءَ. وَاخْتَارَ اللهُ ضُعَفَاءَ الْعَالَمِ لِيُخْزِيَ الأَقْوِيَاءَ” (1 كورنثوس 1: 27) –بعبارة أخرى، لقد اختارنا.

من يعرفون كم هم ضعفاء وعاجزون بشكل مؤلم من دون الله هم الأكثر استعدادًا لتحمُّل ضعف الآخرين. إنهم لا يستاؤون من تقديم المساعدة للمرة المئة، لأنهم يثقون ويخضعون بسعادة لخطط الله، بما فيها الضعفات التي وضعها حولهم.

شجِّعوا صغار النفوس

يمتحن صغار النفوس صبرنا لأن عزيمتهم تخور بشكل أسهل بكثير من غيرهم. من بين أهل كنيسة تسالونيكي، كان البعض قد بدؤوا يذبلون بسبب خسارتهم لأحبائهم (1 تسالونيكي 4: 13-5: 11). استنزفت عزيمتهم الخائرة قوَّتهم وعزيمتهم الروحيَّة–لذلك احتاجوا الآخرين (والذين على الأرجح كانوا هم أيضًا حزانى).

يفتقر صغار النفوس إلى القوَّة أو القدرة على التحمُّل، والتي يتمتَّع بها الآخرون في علاقاتهم وخدماتهم. إنهم يعانون من أعباء لا يقدرون أن يحمِلوها بأنفسهم. وكثيرًا ما ييأسوا من أعبائهم، ويصارعون ليروا كيف يمكن أن تكون الحياة أكثر احتمالًا، إن أمكن. ونحن بالفعل لدينا أعباؤنا الخاصَّة لنحملها، لذا فقد يُشعِرنا الحديث بالنعمة للاحتياجات العاطفيَّة الروحيَّة لشخص آخر بالإرهاق بمرور الوقت. كثيرًا ما تتطلَّب خدمة التشجيع تحمُّلًا غير عادي.

من يستمرُّون في السير بقلوب خائرة، حتى عندما يكون الطريق بطيئًا ومتعرِّجًا، يُظهِرون قوَّة نابعة من صبر خارق للطبيعة. لقد اكتشفوا، لأنفسهم أولًا، ثم من خلال أنفسهم للآخرين، أن الله:

يُعْطِي الْمُعْيِيَ قُدْرَةً، وَلِعَدِيمِ الْقُوَّةِ يُكَثِّرُ شِدَّةً اَلْغِلْمَانُ يُعْيُونَ وَيَتْعَبُونَ، وَالْفِتْيَانُ يَتَعَثَّرُونَ تَعَثُّرًا. وَأَمَّا مُنْتَظِرُو الرَّبِّ فَيُجَدِّدُونَ قُوَّةً. يَرْفَعُونَ أَجْنِحَةً كَالنُّسُورِ. يَرْكُضُونَ وَلاَ يَتْعَبُونَ. يَمْشُونَ وَلاَ يُعْيُونَ. (إشعياء 40: 29-31)

يتوق أيُّ شخص اختبر عطيَّة القوَّة والتجديد لأن يختبر صغار النفوس الآخرين نفس هذا الاختبار. وأيُّ شيء أحلى من أن يقوِّي الله ويجدِّد شخصًا آخر من خلالنا؟

يختبر كل مسيحي الشعور بالإحباط وخوار العزيمة، وهو ما يعني أن المسيحي يحتاج إلى نبع متواصل من الشجاعة ليتحمَّل المعاناة، ويرفض التجربة، ويضحِّي بمحبة، ويقبل التأديب، ويثابر في الخدمة، ويثق بالله ويطيعه. وهذه الينابيع يقل منسوبها،بلوتجف، في الكنائس عندما نفتقر إلى الصبر اللازم للمثابرة في تشجيع بعضنا بعضًا.

أنذِروا الذين بلا ترتيب

ليس من الصعب أن نرى كيف يمتحن الكسالى، أو الذين هم بلا ترتيب، صبرنا. في حالة كنيسة تسالونيكي، يبدو أن البعض ظنُّوا أن يسوع كان على وشك العودة، ولذلك بدؤوا يتهرَّبوا من عملهم ويتركوه للآخرين (2 تسالونيكي 2: 1-2؛ 3: 6).

يمتحن الكسالى صبرنا لأنهم يرفضون أن يتحمَّلوا المسؤوليَّة ويقوموا بالمبادرة. إذ في إمكانهم أن يفعلوا المزيد، ويساعدوا أكثر، ويحملوا أكثر، ويساهموا بأشكال فعَّالة، ولكنهم يرضون بفعل ما يكفي فحسب (أو أقل)، وهو ما يعني أنه على شخص آخر أن يفعل المزيد. وعندما نكون نحن هذا الشخص، نصبح غير صبورين.

ولكن بولس لا يتركالشخص غير الصبوريفلت من العقاب، حتى مع الشخص الكسول. صحيح أنه يقول أَنذِروهم –حذِّروهم، حثُّوهم، أيقظوهم– حتى ولو اضطررتم لمنع الطعام لفترة (2 تسالونيكي 3: 10-11) أو إبعادهم عن شركتكم (2 تسالونيكي 3: 6). ومع ذلك، فهو يقول أنْ نفعل هذا بصبر. كونوا صبورين مع الجميع. ماذا يعني هذا؟ عادة ما لا نربط الكلمات الصعبة أو النتائج المؤلمة بالصبر.

لماذا الصبر

أوَّلًا، قد نسأل:لماذا نحن صبورون، حتى ونحن ننذر الكسالى؟ جزئيًّا، نحن صبورون مع الخطاة لأننا لا زلنا نحن أنفسنا خطاة. ليس كسل الآخرين –أو جشع الآخرين، أو شهوة الآخرين، أو غضب الآخرين، أو غرور الآخرين– شريرًا لدرجة أننا لا نقدر أن نرى شيئًا من خطيَّتهم فينا. لا يتطلَّب الأمر منَّا خيالًا واسعًا لنرى أنه، من دون وقوع معجزة لا نستحقها، لَأصبحنا مثل الآخرين –وربَّما أسوأ.

يعكس عدم الصبر مع الخطاة نظرتنا لرحمة الله من نحونا على أنَّها شيء بسيط. نفس الرسول الذي يقول إنه ينبغي أن نوبِّخ الكسالى يقول أيضًا:

صَادِقَةٌ هِيَ الْكَلِمَةُ وَمُسْتَحِقَّةٌ كُلَّ قُبُول: أَنَّ الْمَسِيحَ يَسُوعَ جَاءَ إِلَى الْعَالَمِ لِيُخَلِّصَ الْخُطَاةَ الَّذِينَ أَوَّلُهُمْ أَنَا. لكِنَّنِي لِهذَا رُحِمْتُ: لِيُظْهِرَ يَسُوعُ الْمَسِيحُ فِيَّ أَنَا أَوَّلاً كُلَّ أَنَاةٍ، مِثَالاً لِلْعَتِيدِينَ أَنْ يُؤْمِنُوا بِهِ لِلْحَيَاةِ الأَبَدِيَّةِ. (1 تيموثاوس 1: 15-16)

حتى توبيخنا يجب أن يكون مُزَيَّنًا باتِّضاع وبوعي بحالتنا الخاطئة –بوعي بمقدار الشر الذي سنكون عليه من دون نعمة الله.

كيف الصبر

وإذ عرفنا لماذا نحن صبورون، حتى مع من نحتاج إلىأن نوبِّخهم، كيف نوبِّخ بصبر؟ أوَّلًا، ربَّما يلزم أن نقول إن التوبيخ الجيِّد ذاته هو دليل على الصبر. من السهل أن نيأس من الخطاة. من السهل أن نعنِّف وندمِّر شخصًا أخطأ في حقِّنا. مَن يُوبِّخون بصورة جيِّدة –فيهدفون إلى ردِّ الشخص من خلال المواجهة والتقويم الأمينين واللطيفين– يُظهرون أنهم لم ييأسوا، وأنه لا زال لديهم رجاء في أنَّ الله سَيَهِب التبكيت والغفران والمصالحة والتغيير.

ومع ذلك، فالصبر في التوبيخ يعني أيضًا الاستعداد لانتظار التغيير. قد يكون التقديس عمليَّة بطيئة بشكل مؤلم، وأحيانًا بشكل لا يُطاق. ينبغي ألَّا نتوقَّع أن يصبح الكسول ساهرًا ومجتهدًا على الفور –أو، في هذا الشأن، أن يصبح المتكبِّر مُتَّضعًا على الفور، أو الغضوب لطيفًا، أو الشهواني نقيًّا على الفور. نحن لا نتغاضى عن الخطيَّة في حياة مَن نحبهم، أو نلتمس العذر لخطاياهم. نحن نذهب إليهم، ونحذِّرهم، ونناشدهم، بل ونوبِّخهم بحدَّة إذا لزم الأمر –ونستمر في فعل هذا– ولكننا نفعل هذا عالمين، من خبرتنا المباشرة، أنَّ التغيير كثيرًا ما يحدث ببطء. نحن نزرع البذار عالمين أنَّها قد تحتاج إلى وقت حتى تثبت وتنضج، وأخيرًا تُزهِر.

إله صبور لشعب غير صبور

قد نرحِّب بالفرصة التي تأتينا لنوبِّخ الكسالى والمُهمِلين، ولكن هل يمكننا أن نفعل هذا بصبر؟ إذا لم يكن بمقدورنا هذا، فعلى الأرجح يكون السبب أننا لم نتأمَّل بما يكفي في صبر الله من نحو خطاة مثلنا –خطاة مثلي.

عندما تضرَّع موسى ليرى مجد الله، ماذا أعلن الله عن نفسه؟ “فَاجْتَازَ الرَّبُّ قُدَّامَهُ، وَنَادَى الرَّبُّ: الرَّبُّ إِلهٌ رَحِيمٌ وَرَؤُوفٌ، بَطِيءُ الْغَضَبِ وَكَثِيرُ الإِحْسَانِ وَالْوَفَاءِ” (خروج 34: 6). الله لديه كل الأسباب والحقوق التي تجعله يغضب علينا، ومع هذا فهو بطيء الغضب. إنه صبور معنا، إذنقرأ في 2 بطرس 3: 9: “وَهُوَ لاَ يَشَاءُ أَنْ يَهْلِكَ أُنَاسٌ، بَلْ أَنْ يُقْبِلَ الْجَمِيعُ إِلَى التَّوْبَةِ”. لا يطلب الله البتَّة من أي شخص أن يكون صبورًا ما لم يكُن قد أخذ بالفعل من غنى صبره اللا محدود.

وهذا لا يعني أن الصبر ليس صعبًا. سواء في قواعد المرور في الطريق إلى العمل، أو في وقت من التحرُّكات المهمَّة أو عدم اليقين، أو بجوار سرير شخص نحبه في المستشفى، قد يتطلَّب الصبر تضحية وتسليمًا غير مريح. على أي حال، في صبر الآب، لم يبخل بابنه بل أسلمه لأجلنا. وكما كان الحال في الصليب، هكذا هو معنا. يعمل الألم الملازم لصبرنا على تحقيق هدفه الخفي والجميل: لفت الانتباه إلى جمال وقوَّة محبَّة الله.

بقلم مارشال سيجال

تم ترجمة هذا المقال بالتعاون مع هيئة 

Desiring God 

يمكنك قراءة المقال باللغة الإنجليزية من خلال الضغط على الرابط التالي 

https://www.desiringgod.org/articles/patience-will-be-painful

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى