Desiring Godمقالات

وثنية القلوب

مِسمار في نعش وثنيَّة القلب

خمسمائة عام من الصراع!

 قبل خمسمائة عام من الآن، أشعل الله فتيلة صغيرة في فيتنبيرج بألمانيا، وقد نَمت الفتيلة لتصبح الشعلة الذهبية للإصلاح الإنجيلي، وسرعان ما تحولت المطرقة التي بيد مارتن لوثر لضربة قوية، حطمت كل الصور الزائفة عن الله  في العبادة السائدة آنذاك.

لقد بدا الأمر مشوشًا!

نعم، تحطمت الصور والتماثيل والأضرحة المقدسة والأيقونات والآثار المقدسة، لكن هذه جميعها ببساطة تمثل فقط الشكل الخارجي لأوثان نُخفيها داخل قلوبنا الخاطئة، تلك الأوثان التي نقدسها -أحيانًا تحت ستار التدين المسيحي- لقد رأى المصلحون الإنجيليون، أن صناعة الأوثان ما هي إلا تعبيرًا عن أوثان القلب الداخلية التي وضعت بداخلنا ثقة زائفة. لذا، فالإصلاح الإنجيلي يُعد بمثابة إعلان للحرب على كل التصوارت الخاطئة عن الله، وهذا ما يعني أيضًا الحرب على كل الأوثان في حياتنا.

صناعة الأوثان:

 حارب جون كالفن كثيرًا في هذه المعركة، ويقول: “إن طبيعة الإنسان -إن جاز التعبير- هي مصنع دائم للأوثان”، واسمع ما يقول لاحقًا: “إن عقل الإنسان الممتلئ بالكبرياء والفجور، يحمل من الجرأة ما يجعله يصنع إلهًا حسب محدوديته! ولأنه متأرجح، فهو في الحقيقة مأخوذٌ بجهل شديد ليقتنع بصورة غير واقعية وفارغة عن الله”.

ليس هناك أخطر من ثقتنا المتديِّنة في إله زائف من صنع تخيلاتنا.

وقد خاض أيضًا مارتن لوثر هذه الحرب، وكتب إلى روما:

“هكذا يقول الأشرار: “أنا راهب أوفي للرب نذوري وأقوم بممارسة الطقوس، ولأجل ذلك سيهبني الحياة الأبدية”، لكن من أعلمك أنك حينها تعبد الإله الحقيقي، بينما هو لم يأمر بمثل هذه الأشياء؟ من ثمّْ، أنت صنعت لنفسك إلهًا يطلب هذه الأشياء، بينما الإله الحقيقي لا يطلبها أو يعطي الحياة الأبدية في مقابلها، فمن إذًا هو ذاك الذي تعبده، سوى وثن في قلبك، تظن أنك ستنال رضاه بأعمالك الصالحة؟!”

اسمع هذه الكذبة المكشوفة: “سأكون سعيدًا متى حققت الأمان الروحي بأعمالي الجديرة بالمكافأة ووفيت نذوري وأديت كل الطقوس”.

هذا في الحقيقة وثن زائف –أمان زائف في أعمال الجسد- صورة كاذبة عن الله  وإنجيل مزيف وإله مزيف أيضًا.

محاربة الإيمان السطحي:

لقد أولى الإصلاح الإنجيلي اهتمامًا كبيرًا في مواجهة هذا الأمان الزائف في أعمال الجسد، واجه المصلحون الإنجيليون التماثيل والأضرحة المقدسة والأيقونات والآثار المقدسة، لكن جُلّ اهتمامهم كان يستهدف مواجهة الأوثان العقائدية، الادعاءات الزائفة عن الله، والفرضيات التي أضلت أجيالًا بأكملها (كولوسي 8:2، 2 كورنثوس 4:10–5).

“اُنْظُرُوا أَنْ لاَ يَكُونَ أَحَدٌ يَسْبِيكُمْ بِالْفَلْسَفَةِ وَبِغُرُورٍ بَاطِل، حَسَبَ تَقْلِيدِ النَّاسِ، حَسَبَ أَرْكَانِ الْعَالَمِ، وَلَيْسَ حَسَبَ الْمَسِيحِ”.

“إِذْ أَسْلِحَةُ مُحَارَبَتِنَا لَيْسَتْ جَسَدِيَّةً، بَلْ قَادِرَةٌ بِاللهِ عَلَى هَدْمِ حُصُونٍ. هَادِمِينَ ظُنُونًا وَكُلَّ عُلْوٍ يَرْتَفِعُ ضِدَّ مَعْرِفَةِ اللهِ، وَمُسْتَأْسِرِينَ كُلَّ فِكْرٍ إِلَى طَاعَةِ الْمَسِيحِ”.

من الوصايا الثلاث الأُوَّلى، انطلق المصلحون لتحدي الانجذاب العالمي للأوثان في كل الثقافات:

–  الوصية الأولى، لا تتبع آلهة أخرى: “لاَ يَكُنْ لَكَ آلِهَةٌ أُخْرَى أَمَامِي”. (خروج 3:20)

– الوصية الثانية، لا تفسد عبادتك للرب بصور باطلة: “لاَ تَصْنَعْ لَكَ تِمْثَالاً مَنْحُوتًا، وَلاَ صُورَةً مَا مِمَّا فِي السَّمَاءِ مِنْ فَوْقُ، وَمَا فِي الأَرْضِ مِنْ تَحْتُ، وَمَا فِي الْمَاءِ مِنْ تَحْتِ الأَرْضِ. لاَ تَسْجُدْ لَهُنَّ وَلاَ تَعْبُدْهُنَّ، لأَنِّي أَنَا الرَّبَّ إِلهَكَ إِلهٌ غَيُورٌ، أَفْتَقِدُ ذُنُوبَ الآبَاءِ فِي الأَبْنَاءِ فِي الْجِيلِ الثَّالِثِ وَالرَّابعِ مِنْ مُبْغِضِيَّ، وَأَصْنَعُ إِحْسَانًا إِلَى أُلُوفٍ مِنْ مُحِبِّيَّ وَحَافِظِي وَصَايَايَ”. (خروج 20: 4-6)

– الوصية الثالثة، لا تستخدم اسم إلهك باطلاً: “لاَ تَنْطِقْ بِاسْمِ الرَّبِّ إِلهِكَ بَاطِلاً، لأَنَّ الرَّبَّ لاَ يُبْرِئُ مَنْ نَطَقَ بِاسْمِهِ بَاطِلاً”. (خروج 7:20)

هذه الوصايا الثلاث، هي ثلاثة تحذيرات إلهية ضد الأفكار الباطلة والضحلة عن الله:

التحذير الأول: ممنوع الموائمة، لا تفكر بأنه يمكنك عبادة الله بينما أنت عبد لأوثانك، إذا خطر لك أن تعبد الله بثلث قلبك، وبالثلثين تعبد أوثانك، فلن تنال شيئًا من الله! الموائمة فكرٌ باطل عن الله.

التحذير الثاني: ممنوع الاستهانة، لا تقلل أو تهين الله بتصورك أنه شيئًا بإمكانك التحكم به، كتمثال لوثن تحمله في أحدى يديك أو كعجل ذهبي صغير، “هكَذَا قَالَ الرَّبُّ: السَّمَاوَاتُ كُرْسِيِّي، وَالأَرْضُ مَوْطِئُ قَدَمَيَّ..” (إشعياء 1:66)، الاستهانة فكرٌ باطل عن الله.

التحذير الثالث: ممنوع الاستهانة باسم الرب، لا تُسرع في التكلم عن الله، من السُخف أن نظن أنه بإمكاننا أن نقحم اسم الله، لأننا نغطي جهلنا بمَنْ هو حقًا! الاستهانة باسم الرب هو عباءة لإخفاء فكرنا الباطل عنه.

في الأصل، كل الأوثان في العهد القديم، تقدم صورة كاذبة عن الله، فقط الكذب هو كل ما بإمكانهم أن يقدموه، فالأوثان جمعها تولد من الأكاذيب، وبالتالي لا تعظ عبيدها سوى بالكذب، “مَاذَا نَفَعَ التِّمْثَالُ الْمَنْحُوتُ حَتَّى نَحَتَهُ صَانِعُهُ؟ أَوِ الْمَسْبُوكُ وَمُعَلِّمُ الْكَذِبِ حَتَّى إِنَّ الصَّانِعَ صَنْعَةً يَتَّكِلُ عَلَيْهَا، فَيَصْنَعُ أَوْثَانًا بُكْمًا؟” (حبقوق 18:2)، “لأَنَّ التَّرَافِيمَ قَدْ تَكَلَّمُوا بِالْبَاطِلِ، وَالْعَرَّافُونَ رَأَوْا الْكَذِبَ وَأَخْبَرُوا بِأَحْلاَمِ كَذِبٍ. يُعَزُّونَ بِالْبَاطِلِ. لِذلِكَ رَحَلُوا كَغَنَمٍ. ذَلُّوا إِذْ لَيْسَ رَاعٍ” (زكريا 2:10)، “هِيَ بَاطِلَةٌ صَنْعَةُ الأَضَالِيلِ. فِي وَقْتِ عِقَابِهَا تَبِيدُ” (إرميا 15:10).

وبالتدقيق في النص الكتابي، اكتشف مارتن لوثر أنه عند صناعة العجل الذهبي، كان الهدف بالأساس استخدام الإزميل لكتابة نقش لعبادة الرب الإله، لكن ما حدث هو العكس، إذ خرج من بين يدي هارون وثنًا كاذبًا في شكل عجل ذهبي!

“فَأَخَذَ ذلِكَ مِنْ أَيْدِيهِمْ وَصَوَّرَهُ بِالإِزْمِيلِ، وَصَنَعَهُ عِجْلاً مَسْبُوكًا. فَقَالُوا: «هذِهِ آلِهَتُكَ يَا إِسْرَائِيلُ الَّتِي أَصْعَدَتْكَ مِنْ أَرْضِ مِصْرَ»” (خروج 4:32).

ما هي أوثان أيامنا الحالية؟

إن استهداف أوثان التدين في أيامنا هذه، قد يكون بمثابة الحرب على جبهة المعركة، تمامًا كما كان الحال عندما نادى المصلحون الأوائل بذلك، مذكرّين الناس برسائل بولس الرسول إلى أهل غلاطية وروما.

إن قلب الإنسان مصنع الأوثان، وتطلب ذلك ثورة كاملة عظيمة لإبطاء تروس آلاته، تطلب تدريب الوعاظ وإرسالهم للناس، وأن يلبي الكارزون النداء، وأن تعبر الإرساليات البحار المظلمة لتذهب لأراضٍ مجهولة، وتطلب أن يعمل المترجمون على تبسيط النص الكتابي حتى يفهمه عامة الناس، وأن تسير الكنائس المحلية على النهج الصحيح حنى تنموا ويكون لها دور في هذه المعركة، وأن يقاوم كل مؤمن أوثان قلبه، مستبدلاً إياها بالمسيح، والنمو في معرفة قوية بالله كما أعلن عن نفسه في كتب الوحي الطاهر.

كان هذا هو الشغل الشاغل للمصلحين قبل خمسمائة عام، التفكير السطحي عن الله دائمًا ما يزيح الله عن القلب، ويجلِّس مكانه أوثان زائفة للشعور بالأمان أو الجنس أو الثروة أو القوة أو حتى التدين الزائف.

الحقيقة المحزنة هي: أن الكتاب المقدس يحذرنا مرارًا وتكرارًا بأننا جميعًا صانعي أوثان! سبعة مليارات نسمة لا يستطيعون ولن يستطيعوا التوقف عن العبودية لأوثان القلب، لأنهم لا يستطيعوا التوقف عن وضع رجائهم وأمانهم المستقبلي في مجرد أشياء، نحن بحاجة إلى أن تغيِّر النعمة المخلصة دوافعنا الوثنية.

كما قال جون كالفن مقولته الشهيرة : قلب الإنسان مصنع للأوثان، يخرج أوثانًا جديدةً  باستمرار كما تُلقىَ المنتجات الجديدة على سير آلة التصنيع. هكذا أيضًا تتدفق عدوى الأوثان من قلب الإنسان الساقط لتصل إلى كل ركن وزاوية في وسائل الإعلام – في وسائل التواصل الاجتماعي، والتلفاز، والموسيقى، والأفلام، والروايات، والمذكرات.

منذ وقت طويل في فيتنبيرج بألمانيا، أشعل الراهب مارتن لوثر حربًا استمرت خمسمائة عام على الوثنية، ومازالت شعلة الإصلاح باقية ومستمرة
لأن المعركة الأساسية هى على وثنية اليوم.

بقلم: توني رانكي
تم ترجمة هذا المقال بالتعاون مع هيئة
Desiring God

يمكنك قراءة المقال باللغة الإنجليزية من هذا اللينك
https://www.desiringgod.org/articles/the-nail-in-the-coffin-of-our-hearts

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى