Desiring Godمقالات

أصوات التسبيح الغريبة: مُقدِّمة لسفر المزامير للمتألِّم

سفر المزامير هو عبارة عن مجموعة من 150 ترنيمة تسبيح عبريَّة قديمة كتبها كُتَّاب كثيرون على مدى مئات السنين.

هذا مُلخَّص حقيقي من جملة واحدة، لكنه أيضًا غير مكتمل -غير مكتمل بشكل محزن. إنه يترك أهم أبعاد طبيعة سفر المزامير.

لذا، دعونا نستكشف بإيجاز من أين أتت هذه الترانيم، ولماذا حُفظت لآلاف السنين، وكيف أنها تمثِّل، أحيانًا بطرق مدهشة، ما يسمِّيه كاتب العبرانيِّين “خِدْمَةً مَرْضِيَّةً” (العبرانيِّين ١٢: ٢٨). بعد ذلك سنكون قادرين على إضافة البُعد الحاسم إلى مُلخَّصنا -وربَّما نتحدَّى بعض افتراضاتنا بشأن ما يجعل العبادة “مرضيَّة” في نظر الله.

ما هو المزمور؟

لماذا نطلق على هذه القصائد العبريَّة اسم “المزامير”؟ كلمةpsalm، أي مزمور، هي نطق إنجليزي للكلمة اليونانيَّة “بسالموس”(psalmos)، والتي تعني “أغنيَّة” أو “ترنيمة”. والكلمة “بسالموس” هي ترجمة يونانيَّة للكلمة العبريَّة التي تعني “ترنيمة”. وهكذا نعرف أن هذه القصائد كُتبت لتُغنَّى. تظهر الكلمة في عناوين كثيرة من المزامير الفرديَّة.

في مُلخَّصي القصير، أشرت إلى مجموعة المزامير بأكملها باسم “ترانيم التسبيح”. من الواضح أن بعض الترانيم يناسبها هذا الوصف، مثل مزمور 135 (“هَلِّلُويَا. سَبِّحُوا اسْمَ الرَّبِّ….”)، لكن بعض المزامير لا تبدو مثل ترانيم التسبيح التي يرنِّمها معظمنا في الكنيسة، مثل مزمور 10 (“يَا رَبُّ، لِمَاذَا تَقِفُ بَعِيدًا؟ لِمَاذَا تَخْتَفِي فِي أَزْمِنَةِ الضِّيقِ؟”). فهل من الصحيح أن نسمِّيهم جميعًا ترانيم تسبيح؟

السبب في أنه من الصواب تسمية جميع المزامير في الكتاب المُقدَّس “ترانيم التسبيح” هو أن العبرانيِّين القدامى فعلوا ذلك. فالعنوان العبري لهذا السفر هوtehillîm، والتي تعني “تسابيح”. يعطينا هذا فكرة حاسمة: المُغنُّون الأصليُّون الذين رنَّموا هذه الترانيم اعتبروا نطاق هذه التعبيرات كلها تسبيحًا لله. وإذا كان لدى أسلافنا القدامى في الإيمان نطاق تعريف أوسع لما يُعتبر تسبيحًا ممَّا نفعله نحن العابدين المعاصرين، يبدو لي أن شيئًا من إعادة التقييم من جانبنا سيكون جيِّدًا، خاصة وأن ترانيم التسبيح هذه موحى بها من الروح القدس.

الترانيم مكتوبة لكي نتذكَّر

كُتبت هذه الترانيم لتوفِّر لشعب الله أداةً جماعيَّةً يعبِّرون بها عن العبادة بواسطة الغناء. إنها وسيلة يمكن بها للمؤمنين في كل عصر أن يعلِّموا وينذروا بعضهم بعضًا من خلال الترانيم،التي تعبِّر عن العبادة والشكر (أفسس 5: 19؛ كولوسي 3: 16). وبنفس الأهميَّة (جزء لا يتجزَّأ، في الواقع، من تحقيق ذلك)، كُتبت هذه الترانيم لمساعدة شعب الله على التذكُّر.

ضع في اعتبارك أنه خلال القرون التي كُتبت فيها المزامير -وحتى بضعة قرون مضت- كانت الغالبيَّة العظمى من السكَّان أُمِّيِّين. كان لابد من حفظ أهم المعلومات. وقد أكَّدت الدراسات الحديثة منذ ذلك الحين ما أثبته التاريخ، وهو أنه من بين أكثر أدوات الذاكرة البشريَّة فاعليَّة التي تم اكتشافها على الإطلاق هو الجمع بين الكلمات (خاصة الكلمات المُرتَّبة في صورة شعر) مع لحن موسيقي منمَّق وممتع. ساعدتنا الأغاني دائمًا على التذكُّر.

تمَّت كتابة بعض المزامير للاحتفال بمناسبات خاصَّة (مزمور 20)، أو للتذكير بلحظات محوريَّة في تاريخ إسرائيل (مزمور 78). كان البعض الآخر مهمًّا في مساعدة العبرانيِّين القدامى على تذكُّر من هو الله حقًّا (مزمور 103)، ومن كانوا كشعب (مزمور 95)، ومدى وعي الله العميق بكل فرد (مزمور 139)، وماذا حدث في اللحظات الحاسمة في تاريخهم (مزمور 135)، ولماذا لديهم سبب وجيه لشكر الله (مزمور 136)، ولماذا، على الرغم من عناء الحياة وضيقها، كان لديهم سبب ليقدِّموا لله تسبيحًا غزيرًا وعاليًا (مزمور 147).

السبب في أن هذا السفر لا يزال محبوبًا لدى الملايين اليوم، هو أن كثيرًا من المزامير قد كُتبت لمساعدة أولاد الله على تذكُّر الحقيقة الحاسمة التي عبَّر عنها الله (الابن) فيما بعد بهذه الطريقة: “فِي الْعَالَمِ سَيَكُونُ لَكُمْ ضِيقٌ، وَلكِنْ ثِقُوا: أَنَا قَدْ غَلَبْتُ الْعَالَمَ” (يوحنا 16: 33).

ذبائح التسبيح

لقد دُعي شعب الله طوال تاريخ الفداء إلى أن “يترجّوا الله” (مزمور 43: 5) بينما يعيشون كمشاركين بالكامل في عالم مليء بالألم. ممَّا يعني أننا جميعًا نعيش كثير من الوقت من حياتنا “كَحَزَانَى وَنَحْنُ دَائِمًا فَرِحُونَ” (2 كورنثوس 6: 10).

لهذا توجد مزامير رثاء كثيرة في هذا السفر المُقدَّس. وفي هذه المزامير المظلمة نجد ما قد يكون بالنسبة لنا أكثر التعبيرات إثارة للدهشة من تعبيرات “الخدمة المرضيَّة”، لأنها تعبِّر بلغة العبادة عن مجموعة واسعة من أشكال البؤس البشري -الأنواع التي نختبرها جميعًا- مع ما يصاحبها من خوف وحزن وارتباك.

كتب هؤلاء المُلحِّنون العبرانيُّون القدامى بصدق وشفافية مذهلَين عن صراعاتهم الإيمانيَّة. لقد كتبوا عن شعورهم بأن الله قد تخلَّى عنهم (مزمور 22)، ومعاناتهم من مرض شديد (مزمور 41)، وخوفهم من خطر كبير (مزمور 54)، وأنهم كادوا يتخلون عن الله بسبب الشعور بخيبة الأمل (مزمور 73)، ومعانتهم من أزمة إيمانيَّة (مزمور 77)، واحتمالهم اكتئابًا مزمنًا وشديدًا مدى الحياة (مزمور 88)، والشعور بالاضطراب بسبب شعورهم بأن الله أهمل في الوفاء بوعوده (مزمور 89)، والغضب من غدر الآخرين (مزمور 109)، وأكثر من ذلك. كما كتبوا بشكل صريح عن الخطايا الجسيمة التي اقترفوها (مزمور 51) وكونهم في الطرف المُتلقِّي لتأديب الله الأبوي المؤلم (مزمور 39). وقد كتب هؤلاء المؤلِّفون جميعًا ترانيمهم الشخصيَّة، بل وحتى التي تفضحهم، لصالح جميع أفراد شعب الله، لأن بعض الأعضاء في أي وقت سيختبرون شيئًا مشابهًا.

اعتبر العبرانيُّون القدامى جميع مزامير الرثاء هذه “ترانيم تسبيح”. لماذا؟ لأن كل مزمور، سواء كان حزينًا أو بهيجًا، يشجِّع المُغنِّين (أو القُرَّاء) على “الاتكال على الرب” (مزمور 37: 3)، ليصدِّقوا وعود الله أكثر من تصوُّراتهم. وكلَّما مارس المؤمن وعبَّر عن إيمان حقيقي بالله -أي “ثَمَرَ شِفَاهٍ مُعْتَرِفَةٍ بِاسْمِهِ”- يقبل الله عبادته على أنها “خدمة مرضيَّة”، “كذبيحة تسبيح” (العبرانيِّين 13: 15).

من المثير للاهتمام أن نلاحظ أنه في بنية معظم هذه المزامير الكئيبة، وكذلك في البنية العامَّة للسفر بأكمله، هناك تدرُّج من الخوف إلى الإيمان، من الشك والإحباط إلى الرجاء بالله، من الخطيَّة إلى التوبة والغفران، ومن الحزن إلى الفرح. لقد كُتبت المزامير لمساعدتنا على تحويل تركيزنا من على أنفسنا وظروفنا إلى إله الرجاء، الذي يملأنا بالفرح والسلام إذ نؤمن به (رومية 15: 13).

هل تشبه عبادتنا المزامير؟

الآن يمكننا ملء تعريفنا الموجَز القصير:

سفر المزامير عبارة عن مجموعة من 150 ترنيمة تسبيح عبريَّة قديمة، ألَّفها العديد من الكُتَّاب على مدى مئات السنين، لمساعدة شعب الله على التذكُّر في كل الظروف أن الله هو المصدر الوحيد للخلاص الذي هم في أَمَس الحاجة إليه، والفرح والسلام اللذين يتوقون إليهما كثيرًا،لكييضعوا رجاءهم دائمًا فيه.

وكلَّما كان هذا البُعد الإضافي حقيقة نختبرها، كلما اشتركنا أكثر في “الخدمة المرضيَّة”.

لا يسعني إلَّا أن أعتقد أنه ينبغي علينا نحن المسيحيِّين الغربيِّين أن نفحص مدى توافق تعريفاتنا لـ “الخدمة المرضيَّة” مع ما نراه نموذجًا في المزامير. وخاصة، هل النطاق الموضوعي للترانيم التي نرغب في ترنيمها (أو بالنسبة للقادة، الترانيم التي يسمحون للناس بترنيمها) في أثناء العبادة الجماعيَّة، يسير في نفس اتِّجاه المزامير؟

الإغراء الخطير الذي نواجهه، خاصة في أمريكا، هو التأثُّر الشديد بثقافتنا، التي تحرِّكها فكرة رغبات المستهلك، في كيفيَّة تصميمنا لأحداث العبادة الجماعيَّة والترانيم التي نحفِّز مؤلِّفي الترانيم الحديثة على كتابتها. موسيقى العبادة المسيحيَّة هي صناعة كبيرة ومربحة. ممَّا يعني أن كُتَّاب الترانيم المعاصرين لدينا في كثير من الحالات (وإن لم يكن كلهم ​​بالتأكيد) يتحفَّزون لتأليف الترانيم من أجل الاستهلاك السريع واسع النطاق (لتحقيق النجاح)، بدلًا من أن تكون الكتابة نابعة من التجربة الروحيَّة الحقيقيَّة والعميقة والمعقَّدة. النتيجة المتوقَّعة هي نطاق موضوعي ضيِّق إلى حدٍّ ما ومحتوى غنائي ضحل نسبيًّا.

غالبًا ما لا يكون الأفضل بالنسبة لشعب الله هو الذي يحقِّق أفضل المبيعات ويجذب أكثر الناس. إنه ما يوفِّر تعبيرات عبادة جديدة لمجموعة واسعة من الخبرات المعقَّدة والمؤلمة في بعض الأحيان التي يمر بها شعب الله، من أجل مساعدتهم على التذكُّر في كل الظروف أن الله هو المصدر الوحيد للخلاص الذي هم في أَمَس الحاجة إليه، والفرح والسلام اللذين هما أكثر ما يتوقون إليه، بحيث يعلِّقوا على الله دائما رجاءهم الكامل.

شكرًا لله أنه حفظ لنا سفر المزامير كل هذه السنوات. لأن هذه المزامير تواصل خدمتها المثمرة في تزويدنا بترانيم التسبيح المُقدَّسة بينما نسعى إلى تقديم عبادة مرضيَّة لله “بِخُشُوع وَتَقْوَى” (العبرانيِّين 12: 28). وتواصل المزامير خدمتها المثمرة في تقديم نموذج لنا عن شكل العبادة عندما نفقد اتجاهاتنا.

تم ترجمة هذا المقال بالتعاون مع هيئة

Desiring God

يمكنك قراءة المقال باللغة الإنجليزية من خلال الضغط على الرابط التالي

https://www.desiringgod.org/articles/the-strange-sounds-of-praise

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى