Desiring Godمقالات

الموت للمجد الرقمي (الهروب من الدائرة الداخلية على الانترنت)

 

يرغب عدد قليل منا في إعادة سنوات الدراسة الإعدادية والثانوية. فبالنسبة للكثيرين، كانت الفترة من سن الثانية عشرة إلى السابعة عشرة مليئة بمشاعر متعددة كعدم الأمان والخوف وخيبات الأمل، وربما معاناة شديدة لا نتمنى أن نعيشها مجددًا.

كان جزء من متاعبنا ينبع من ميل المراهقين إلى تحليل كل شيء، حتى أفراحنا وانتصاراتنا الكبيرة، من خلال أقراننا. إذا كنت مثلي، يمكنك على الفور تذكر أوقات عندما انقلب عليك أشخاص كنت تظنهم أصدقاء أو عندما لم يكن أي شيء تقوم به كافيًا لإرضاء من كنت ترغب في محبتهم وصداقتهم. خلال تلك السنوات، كان الضغط الناتج عن السعي للقبول من الآخرين يثقل كاهلنا حتى في أسعد لحظاتنا.

قرأت، منذ عدة سنوات، تعليقًا يقول إن وسائل التواصل الاجتماعي تشبه إلى حد كبير المرحلة الثانوية. أعتقد أنه على صواب. على الرغم من تأكيدنا لأنفسنا بأننا لسنا نفس الأشخاص الطموحين الذين يصيبهم التوتر من العلاقات كما كنا في سن المراهقة، أليس صحيحًا أننا كثير ما نشعر بمشاعر متشابهة ونتخذ قرارات لأسباب متشابهة على الانترنت؟

لاحظ “سي إس لويس” أن “الاهتمام الشديد بالدائرة الداخلية هو الوسيلة الأكثر براعة في جعل المرء الذي ليس شريرًا جدًا بعد يقوم بأعمال شريرة جدًا” ((The Weight of Glory, 154. كان لدى “لويس” فكرة أكثر تقليدية عن “الدائرة الداخلية”: مجموعات من أشخاص يقربون الآخرين ويستبعدونهم في المدارس والأعمال والمجتمعات. فماذا لو كانت الدوائر الداخلية التي تؤثر على ولاءاتنا رقمية؟

أعتقد أن أحد أكبر التحديات التي تواجه الإيمان المسيحي اليوم هو الطريقة التي مكنتنا بها التكنولوجيا من إنشاء شبكة شبه لا نهائية من الدوائر الداخلية.

دوائر الإيمان

البشر ليسوا آلات فكرية مستقلة. فنحن كائنات اجتماعية تقرر (جزئيًا على الأقل) ما تفكر فيه وكيف ستعيش استجابة للمحيطين بها. هذا ليس نتيجة من نتائج السقوط، إنه فقط جزء من معنى أن تكون مخلوقًا. في الواقع، يمكن أن يكون العنصر الاجتماعي بركة عظيمة لأن الإيمان الحقيقي لمن حولنا يمكن أن يُلهم إيماننا ويقويه. ينصح “بولس” تلميذه “تيموثاوس”: “وَأَمَّا أَنْتَ فَاثْبُتْ عَلَى مَا تَعَلَّمْتَ وَأَيْقَنْتَ، عَارِفًا مِمَّنْ تَعَلَّمْتَ” (2 تيموثاوس 14:3). يناشد “بولس” ثقة “تيموثاوس” في الأشخاص الذين أحضروا له الإنجيل كوسيلة تشجيع للاستمرار في الإيمان به.

لذا في معركتنا للاستمرار في الإيمان بمواعيد الله، من الجيد أن نفكر في إيمان من نعرفهم ونثق بهم. لكن هذا التقليد المتدين يختلف عما يحدث أحيانًا على وسائل التواصل الاجتماعي. تعرضنا المستمر على الانترنت لمعتقدات دائرة داخلية معينة ورؤية هذه الدائرة تحقق مكاسب لمعتقداتها وقيمها من خلال “الإعجابات” والمشاركات يمكن أن يدفع معتقداتنا إلى التغيير. في هذه الحالة ما نريده حقًا هو المجد. نريد ما نرى من اهتمام وتشجيع يأتيان إلى بعض الأشخاص، لذلك نميل إلى تقليد معتقداتهم على أمل الحصول على بعض المجد الذي يتمتعون به.

الإيمان لا ينمو بمعزل عن الآخرين. ولا ينمو أيضًا من أجل أن يراه الآخرون.

هذا الاتجاه ليس جديدًا، لقد سبق وتعامل الرب معه مباشرة. سأل الفريسيين : “كَيْفَ تَقْدِرُونَ أَنْ تُؤْمِنُوا وَأَنْتُمْ تَقْبَلُونَ مَجْدًا بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ، وَالْمَجْدُ الَّذِي مِنَ الإِلهِ الْوَاحِدِ لَسْتُمْ تَطْلُبُونَهُ؟” (يوحنا 44:5). المجد الاجتماعي أشبه بالرمال المتحركة في البحث عن الحقيقة. إذا كان هذا صحيحًا منذ ألفي عام، فماذا يكون اليوم، حين تصبح الكتب التي نقرأها، والآراء التي نكونها، حتى الأشخاص الذين نحبهم، مجرد “محتوى” يمكننا نشره للحصول على الاستحسان والقبول؟

الإيمان لا ينمو بمعزل عن الآخرين، ولا ينمو أيضًا من أجل أن يراه الآخرون. عندما علم الرب تلاميذه أن يصلوا في الخفاء، لم يكن يحظر الصلاة في العلن بل كان يحظر الصلاة من أجل الدعاية (متى 1:6، 5ـ6). التحدي الذي نواجهه في العصر الرقمي هو اندماج وسائل التواصل الاجتماعي مع العديد من جوانب الحياة. ليس من السهل التمييز بين أين تنتهي “تصنعوا صدقتكم” وأين تبدأ “تصنعوا صدقتكم قدام الناس لكي ينظروكم”.

الدوائر الداخلية والخارجية

انتقال الحياة إلى الانترنت يزيد من حدة هذا الاغراء بطرق معينة. كلما أكثرنا من استخدام الانترنت، كلما أصبحنا أكثر ميلاً ليس فقط إلى تكوين دائرة داخلية خاصة بنا ـ تلك الحسابات التي نتوق إلى اهتمامها وقبولها ـ بل إلى دائرة خارجية. تمثل الدائرة الخارجية الأشخاص الذين نكرههم ولا نثق بهم. ربما تكون مجموعة ذات آراء لاهوتية معينة نعتبرها خطأ مما يجعل كل ما يؤمنون به موضع شك. أو ربما تكون مجموعة ذات وجهة نظر سياسية معينة تجعلها في نظرنا غير مؤهلة للتحدث في أي شيء.

الحق له حدود. هناك ما يُسمى بالخطأ الملعون (غلاطية 8:1). هناك أوقات ومناسبات لا يصح فيها الاختلاط بأولئك الذين يعلمون الكذب ويعيشون فيه (2 يوحنا 10؛ 1 كورنثوس 11:5). لكن في هذه الحالات الكتابية يوجد دائمًا عنصر هام: الكنيسة المحلية. تقف الكنيسة المحلية كجماعة مجسدة من المؤمنين تحمل رسالة الإنجيل بإيمان وترسي حدود الرب حوله.

ورغم هذا، فإن دوائرنا الرقمية الخارجية لا تتشكل بالأحكام الرصينة للكنائس الحقيقية بل بآرائنا واتجاهاتنا المفضلة. والأكثر من ذلك، يمكننا بسهولة على الكمبيوتر كتم صوت أو حظر أي شخص لا نريد أن نراه. تدرب هذه الممارسات ضميرنا على تلقائية تجاهل الأشخاص ـ في الحياة الواقعية ـ الذين يقولون أو يفعلون أشياء لا نتفق معها. كلما زاد انغماسنا في هذه الطقوس الرقمية، كلما زاد من احتمالية إقامة دوائرنا الخارجية لعالمنا الحقيقي في أماكن غريبة، متأثرين أكثر بقضايا من الدرجة الثانية والثالثة (أو ربما حتى عداوة قديمة) بدلاً من القضايا الأساسية. وهذا ليس ما يريده الرب لشعبه.

الَّذِي يَرَى

في عالمنا شديد الشفافية الذي يدعونا إلى نشر كل ما نحن عليه وكل ما نعمله، فإن دعوة “الرب يسوع” للتواصل معه في الخفاء تُستخدم كأمر غير قابل للتفاوض وكفترة راحة منعشة.

إن العمل المستمر مرهق. فدوائرنا الرقمية الداخلية تفرحنا لوقت قصير، ومديحها لا يدوم طويلاً. ونبدأ مع مرور الوقت في الشعور بالقلق حتى اللحظة التالية التي يؤكدون فيها على قبولهم لنا. ثم نمل من الاضطرار إلى الحفاظ على دوائرنا الخارجية على أمل ألا نُجبر على النظر في عيون الأشخاص الذين تجنبناهم رقميًا. من بين كل الصناعات، فإن بيع وشراء المجد لديه أسوأ معدلات الارهاق النفسي.

تجذبنا أكثر الدائرة الرقمية الداخلية عندما نشعر بأن عيني الله بعيدة عن حياتنا.

إن الرب لديه العلاج المضاد. سواء كنا نساعد في تلبية الاحتياجات المادية للآخرين أو الاحتياجات الروحية لقلبنا، فإن الرب يلفت انتباهنا ليس إلى الأطفال الرائعين الذين يراقبوننا بل إلى الآب الَّذِي يَرَى فِي الْخَفَاءِ” (متى 4:6). تجذبنا أكثر الدائرة الرقمية الداخلية عندما نشعر بأن عيني الله بعيدة عن حياتنا. بالنسبة للبعض منا تبدو الدائرة الرقمية الداخلية وكأنها وسيلة لجعل حياتنا الصغيرة والمغمورة أكبر. وقد يبدو نجاح وسائل التواصل الاجتماعي كأنه الحياة التي لم نتمكن قط من عيشها. لكن هذا يرجع فقط إلى أننا نسينا مَن عشنا في محضره كل يوم.

المفارقة في دائرتنا الرقمية الداخلية هي أنهم إذا تمكنوا من رؤيتنا على حقيقتنا، فإن أجزاءنا التي نرفض نشرها على الانترنت من المحتمل أن تضعنا في الدائرة الخارجية. لكن الله يرانا كلنا. رأى كل فكرة شريرة، وكل كلمة قاسية، وكل لحظة تسرع، وكل فعل أناني محرج. فهو يرى في الخفاء. ومع هذا لا يزال يدعونا إلى الدخول إلى غرفة صغيرة، معه فقط، وإلى سكب قلوبنا المتعطشة للمجد لديه. فهو يقدم نفسه كمجازاة بدلاً من إسكاتنا.

 

أصدقاء، وليس أتباع

اختتم “لويس” محاضرته عن الدائرة الداخلية بوعد مستمعيه الشباب بأنهم إذا قاوموا إغراء استخدام الناس في البحث عن المجد وبدلاً من ذلك استمتعوا بالصداقة في حد ذاتها، سيجدون شيئًا أفضل:

 

“إذا كنت في وقت فراغك ترافق الأشخاص الذين تحبهم، ستجد مرة أخرى أنك وصلت دون أن تشعر إلى الداخل الحقيقي، وأنك فعلاً مرتاح وآمن في مركز شيء يبدو من الخارج كالدائرة الداخلية. لكن الفارق هو أن سريته عرضية وحصريته مجرد تأثير جانبي.. هذه هي الصداقة. وضعها “أرسطو” بين الفضائل. إنها تسبب ربما نصف السعادة في العالم، ولا يمكن لأي شخص من أي دائرة داخلية أن يحصل عليها.                                      (The Weight of Glory, 157)

 

في عالم الدوائر الرقمية الداخلية، اصنع أصدقاء حقيقيين، لا أتباع على الانترنت. اعط نفسك الفرصة أن تتعارض مع المؤمنين الذين لا يشبهونك في كنيستك وتتأثر بهم، بدلاً من إنشاء قائمة شخصية من الأصوات التي تتفق معك في الرأي. والأهم من ذلك كله، صاحب صديق الخطاة الذي من يأتي إليه لا يُخرجه خارجًا.

 

 

 

 

بقلم

“صمويل جيمس”

تم ترجمة المقال بالتعاون مع  هيئة   Desiring God

يمكنك قراءة المقال باللغة الانجليزية من خلال الضغط على الرابط التالي:

https://www.desiringgod.org/articles/let-digital-glory-die

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى