المقاصد المسيحية لبداية عام جديد هي: نعمة مُحِبة، عمل باجتهاد، وسرور.
بناءً على مجال عملك، قد تكون الأيام القليلة التي تلي عيد الميلاد، هي أكثر الأيام مشقَّة واجتهاد في العام.
يستفيد البعض بوقت إجازتهم الأخيرة قبل نهاية العام، آخرون يجتهدون بأقصى ما يستطيعون لتحقيق أهدافهم قبل نهاية العام، كلنا نعيش هذا الوقت المُربك بين نهاية عام وبداية عام جديد، ومع يوم عيد الميلاد نترك خلفنا عامًا مضى ونتطلع لعامٍ جديد، وكأن هذا الوقت بمثابة إعادة ضبط للنفس قبل العام الجديد.
بحسب التقويم الغربي، قد يبدو هذا الأسبوع غريبًا بعض الشيء! حيث نجد هنا توازي مثير للاهتمام بخصوص الحياة المسيحية التي نعيشها لعقود، عندما يستمر سرورنا بالأمس (بالاحتفال بعيد الميلاد) في الحاضر الذي نعيشه، ثم يدفعنا (هذا السرور) لاتخاذ عهودًا أو قرارات لأجل الغد.
ما بين احتفالي عيد الميلاد والعام الجديد
بالنسبة للمؤمنين المسيحيين، الابتهاج بيوم عيد الميلاد ليس هو سبب السرور في حد ذاته، ولكن لأنه يذكِّرنا على مدار أيام العام جميعها، بأن ميلاد المسيح حدث بالفعل، وهو حدث حقيقي تمامًا، يجب أن نفرح به فيكل يوم من أيام السنة، وفي كل لحظة من اليوم، كما كان قبل ألفي عام، حين جاء المسيح، الله نفسه، في شخص ابنه، وعاش بيننا كواحدٍ منا، ثم مات وقام وصعد. فرحة عيد الميلاد ليست يومًا واحدًا ضمن 365 يومًا في التقويم، ينتهي في منتصف الليل، مسرَّة عيد الميلاد حقيقة ثابتة ومؤكدة بالنسبة للمسيحي، اليوم كما في الأمس.
نحن مدعوون للاستمرار في مواصلة حياتنا، لأن التاريخ وحياتنا في هذا العصر لم ينتهيا بعد، لقد تمَّ الحدث الحاسم في مجيء المسيح، ولا يزال هناك عمل يتعيَّن القيام به، فينا ومن خلالنا، مازالت هناك أيام جديدة آتية وسنوات جديدة آتية، والله يدعونا لأن نبني حياتنا- وسني حياتنا التي لانعرف عنه اشيئًا بعد- على أساس الابتهاج بعيد الميلاد، حتى يصير عيد الميلاد العظيم، غير القابل للتغيير، الذي حدث في الماضي، حاضرًا نعيشه، ونعيش مستقبلًا مختلفًا بسببه.
هذا الأسبوع من العام، هو واحد من البركات البسيطة ولكنها غير ظاهرة من العهد الجديد، هذه البركة تصاحب الابتهاج بعيد الميلاد، وبعد أن ينتهي تكون حافزًا للعمل في الأيام القادمة التي تنتظرنا بعده. هي بركة من السهل التغاضي عنها أو عدم ملاحظتها، لأنها مختبئة في منتصف الرسالة، بدلاً من ظهورها بوضوح في نهاية الرسالة:
“وَرَبُّنَا نَفْسُهُ يَسُوعُ الْمَسِيحُ، وَاللهُ أَبُونَا الَّذِي أَحَبَّنَا وَأَعْطَانَا عَزَاءً أَبَدِيًّا وَرَجَاءً صَالِحًا بِالنِّعْمَةِ، يُعَزِّي قُلُوبَكُمْ وَيُثَبِّتُكُمْ فِي كُلِّ كَلاَمٍ وَعَمَل صَالِحٍ” (2كورنثوس 2: 16-17)، لاحظ هنا كيف أن العمل الإلهي الحاسم في الماضي، يغذي ويحرك الحاضر لتنشيط حياة جديدة –حياتنا نحن- وإنتاج قوة جديدة للأزمنة القادمة، هذا ما سنتاوله بالتفصيل:
الآب أحبنا وأعطانا
بالرغم من أن البركة تفيض على كل المستقبل –والحياة التي لم نحياها بعد- لم يسع بولس إلا أن يتدَّرب على أن يعيش على ما أنجزه وأتمُّه الله بالفعل في الماضي، السمو الإلهي-الذي يميِّز الإيمان المسيحي عن كل ما يسَّمى بالدين- لا يكمن في الفرائض والأعمال التي علينا أن نؤديها، بل في الأعمال العظيمة غير القابلة للتغيير التي تمت في الماضي. بالنسبة للمؤمنين المسيحيين، الماضي ليس مجرد ماضي، بل ماضي يكشف عن ماهيَّة الله، وهذا هو قوة الحاضر.
بولس كان لديه طلبةً خاصةً تجعله يصلي لأمر ربنا يسوع المسيح نفسه سيفعله من أجلنا في الوقت الحاضر، لكنه يريدنا أن نعرف أن المسيح لن يفعل ذلك في تعارض مع إرادة الآب، بل يعمل هو والآب في تناغم. وعندما يذكر “الله أبونا”، يتدرب بولس أن يعيش على عمل الله الذي تمَّم عمله وإنجازه، وهو غير قابل للتغيير: “لقد أحبنا وأعطانا عزاءً أبديًا ورجاءً صالحًا بالنعمة”.
مكانتنا أمام الله ليست بسبب أعمالنا، بل بسبب ما عمله الله. قبل أن يدعوك بوقتٍ طويل، أَحبك وأَظهر ذلك قبل ما يقرب من ألفي عام من ميلادك “وَلكِنَّ اللهَ بَيَّنَ مَحَبَّتَهُ لَنَا، لأَنَّهُ وَنَحْنُ بَعْدُ خُطَاةٌ مَاتَ الْمَسِيحُ لأَجْلِنَا” (رومية 5: 8)،الإيمان المسيحي يمنحناعطية لا تقدر بثمن “لأَنَّهُ بِقُرْبَانٍ وَاحِدٍ قَدْ أَكْمَلَ إِلَى الأَبَدِ الْمُقَدَّسِينَ” (عبرانيين 14:10)، من فوق الصليب أعلن يسوع “قد أُكمِل” (يوحنا 19:30)، بإتمام عمل يسوع وحده، نستطيع أن نصل إلى علاقة مع الله بالإيمان وحده، وليس بأي عمل من جانبنا.
سرور أبدي ورجاء ثابت
يذكر بولس هنا عمليَّن محدديَّن، عملهما المسيحلأجلنا: السرور الأبدي (“التعزية” كما تعني باليونانية) والرجاء الصالح. إن السرور الذي لنا، هو بالنعمة في المسيح، لذلك فهو لا يزول لأنه ليس مؤقتًا أو هشًّا أو رخيصًا، بل حقيقي وقوي ولا ينتهي أبدًا. مصدره ليس فينا أو متقلبًا مثلنا، بل مضمونًا، لأنه خارجنا، مصدره في المسيح نفسه، وهو ليس متقلبًا بل أمينًا للمنتهى.
والرجاء الذي لنا بالنعمة (في المسيح)، ليس رجاءً شريرًا، أو يُحتمل أن يكون كاذبًا. بل رجاء راسخ وصالح، وسيبقيه الله صالحًا، لن يخيب أبدًا. في عالم يعجُّ بالآمال الهزيلة، والفارغة، والخادعة، والشريرة.
لذلك، يشدِّد بولس على عمل الآب-وهو عملمع ابنهيسوع ومن خلاله- أن الله الآبأحبنا وبذل (ابنه) لأجلنا، وهذه النعمة التي تمت في المسيح في الماضي،نعيش في آثارهافي الحاضربوضوح.
يسوع يعطي الفرح والقوة
يصلي بولس من أجل عمل المسيح فينا في الحاضر، وليس بأعمالنا نحن، سنصل إلى هذه النقطة التي عندها يجب أن يكون لنا أعمالًا صالحة بقوة الإيمان، لكن لا تتعجَّل حدوث ذلك بسرعة كبيرة، بل تراجع واترك الله يقود.
مثلما يعمل يسوع الابن والله الآب في الماضي، لكن في المرة السابقة كان التركيز على عمل الآب في الماضي، كذلك، سيكون التركيز الآن على عمل الابن يسوعفي الوقت الحاضر، ولذلك يصلي بولس، أن المسيح نفسه يفرِّح قلوبكم ويقوِّيها.
السرور الذي يملىء به المسيح قلوبنا، لم يكن في الماضي فقط. بل موجودًا في حاضرنا أيضًا،يسوع مازال يفعل هذا الآن من أجل شعبه، يفعل ذلك اليوم، وسيفعله غدًا، لأن مشيئته هي أن يفرِّح قلوبنا. ولا يجعلنا سعداء فقط –رغم كونه شيئًا رائعًا- ويتركنا ضعفاء، بليُفرِّح ويُقوي (“يؤسس” كما تعني في اليونانية)، يجعل قلوبنا قوية، أي على استعداد للعمل والثمر.
هذه صلاة رائعة، ليتنا نصليها: أن يغرس فينا المسيح السرور والقوة، أن يمدُّنا المسيح نفسه بالقوة لكي نتقوى ونعزم ونفعل ما دعانا الله أن نفعله.
المسيح نفسه كسند لنا في الشدائد، كان قديمًا ملازمًا للرسول بولس “وَأَنَا أَشْكُرُ الْمَسِيحَ يَسُوعَ رَبَّنَا الَّذِي قَوَّانِي” (1تيموثاوس 1: 12)، لذا يقول إن يسوع أعطاه القوة. ويشهد أنه عندما وقف وحيدًا، أن “َالرَّبَّ وَقَفَ مَعِي وَقَوَّانِي” (2 تيموثاوس 4: 17)، لذلك يقول بولس لتيموثاوس، “فَتَقَوَّ أَنْتَ يَا ابْنِي بِالنِّعْمَةِ الَّتِي فِي الْمَسِيحِ يَسُوعَ” (2 تيموثاوس 2: 1)، ويقول لنا جميعًا، “تَقَوُّوْا فِي الرَّبِّ وَفِي شِدَّةِ قُوَّتِهِ” (أفسس 6: 10)، وبالطبع، يعلن بولس ذلك في الآية التيلا تُنسى في (فيلبي 4:13) “أَسْتَطِيعُ كُلَّ شَيْءٍ فِي الْمَسِيحِ الَّذِي يُقَوِّينِي”،بل وحتى يتحدث الرسول بولس عن قوة المسيح في تعبه “الأَمْرُ الَّذِي لأَجْلِهِ أَتْعَبُ أَيْضًا مُجَاهِدًا، بِحَسَبِ عَمَلِهِ الَّذِي يَعْمَلُ فِيَّ بِقُوَّةٍ.” (كولوسي 1: 29).
الله المتجسِّد، الملك القائم من بين الأموت، هو نفسه يمنح القوة لشعبه ليعملوا ما دعاهم للقيام به. هو جالسٌ على العرشعن يمين الآب،وليس صامتًا. بل على استعداد لأن يُبهج روحك ويقوي جسدك. والآن كيف يفيدنا ذلك؟
لدينا الآن نوعان من التعزية (الابتهاج): السرور الأبدي الذي أعطاه لنا الآب في المسيح. وعطية السرور في الوقت الحاضر، التي لنا في المسيح من المسيح نفسه، والآن، أخيرًا، يأتي عملنا، ودورنا، ودعوتنا، وعزمنا “في كل عمل وكل كلمة صالحة.”
اعمل كبروتستانتي!
تشكل أفعال المسيح والآب في الماضي والحاضر مقياسًا رائعًا لأخلاقيات العمل المسيحي للعام الجديد. وتشكل النعمة الإلهية الأساس، وتمنحنا القوة التي بها نستطيع أننسلك الآن في الإيمان، من خلال كلمات أفواهنا، وأعمال أيدينا، مدعومين ومتقوين بهذه النعمة “فَلْيُضِئْ نُورُكُمْ هكَذَا قُدَّامَ النَّاسِ، لِكَيْ يَرَوْا أَعْمَالَكُمُ الْحَسَنَةَ، وَيُمَجِّدُوا أَبَاكُمُ الَّذِي فِي السَّمَاوَاتِ” (متى 16:5).
قد نسمي هذا “أخلاقيات العمل البروتستانتية”. لكن للأسف،أساء البعض فهم هذا المصطلح ظنًا منهم أن البروتستانتين يعملون بجد لأنهم ينظرون إلى النجاح على أنه علامة على كونهم مختاري الله! هذا سوء فهم خطير. والفهم السليم “لأخلاقيات العمل البروتستانتية” الحقيقية، إذا كنا سنشير إلى ذلك، هو تناغم واتفاق أعمالنا مع عمل الله (العمل السابق والأساسي الذي عمله من خلال المسيح لأجلنا)، بما في ذلك المسرة والقوة التي تمنح النشاط والشغف لشعبه، ليكونوا مستعدين لكل عمل صالح من أجل خير الآخرين.
بالكلام والأفعال على مدى الأيام
بعبارة أخرى، لأننا تبررنا أمام الله فقط بالإيمان بالمسيح، فلنا ضمانًا أبديًا يكفي لنبذل حياتنا من أجل الإيمان بالمسيح. أصبح لنا ضمان السماء فماذا بعد؟ دعونا نغيِّر الأمور على الأرض، عمل المسيح النهائي والكامل لتبريرنا، يحررنا لنكون في حالة تقديس مستمر ونقدم أعمال محبة لخدمة الآخرين،عندما نعرف أن ضمان نفوسنا في المسيح ، وقوتنا من روحه، سنعرف كيف نتحدث جيدًا عنه وكيف نفعل الخير في العالم، بدلاً من التركيز على نفوسنا ومحاولة إصلاحها باستمرار أمام الله.
الإيمان بالمسيح بالتأكيد لا يجعل الناس كسالى،عوضًا عن ذلك، يحول الناس الكسالى إلى أناس جادين في عملهم. يجعلنا الإنجيل بقوة الروح “غَيُورون فِي أَعْمَال حَسَنَةٍ” (تيطس 2: 14)، أولئك الذين نالوا الخلاص في المسيح “لاَ بِأَعْمَال فِي بِرّ عَمِلْنَاهَا نَحْنُ، بَلْ بِمُقْتَضَى رَحْمَتِهِ” (تيطس 3: 5) قد تحرروا أخيرًا، ومنحهم الله قوةًلكي “يَكُونُوا مُسْتَعِدِّينَ لِكُلِّ عَمَل صَالِحٍ” و”لِكَيْ يَهْتَمَّ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللهِ أَنْ يُمَارِسُوا أَعْمَالاً حَسَنَةً” (تيطس 3 ، 1 ، 8 ، 14).
ليت المسيح يهبنا أن تسير الأمور هكذا في العام المُقبل. ليت عيد ميلاد المسيحالذي تحقق قبل ألفي عام، وهو حقيقي اليوم كما كان دائمًا –أن يكون مصدر مسرة وضمان لنا- حتى يرسلنا بالرجاء وبالقوة لمواجهة الغد المجهول في العام القادم وكل حياتنا القادمة.
بقلم/ ديفيد ماتييز
تم ترجمة المقال بالتعاون مع هيئة Desiring God
يمكنك قراءة المقال باللغة الإنجليزية من خلال الضغط على الرابط التالي:
https://www.desiringgod.org/articles/grace-loving-hard-working-and-happy