بطيء الغضب سريع البركة رؤية للآباء الأرضيين
بهذا التكريم الذي لا يُنسى لأبينا السماوي، ينهي القس والشاعر “هنري فرانسيس لايت (1793 ـ 1874) المقطع الثاني من ترنيمته “سبحي يا نفسي ملك السماوات”. وُلد “لايت” لأب مهمل لمسئولياته فأرسله إلى مدرسة داخلية، متخليًا عنه تقريبًا، وكان يوقع خطاباته القليلة بكلمة “العم” لا “الأب”. بمرور الوقت، كان “هنري” الصغير يقضي عطلاته مع ناظر المدرسة كابنه بالتبني.
لذا عرف “لايت” شخصيًا آلام الترك من أب مهمل. ورغم هذا وجد الشفاء في الآب السماوي. كتب “دعوتك آبا الآب” في المقطع الرائع لـ”يسوع، حمل صليبي”. ثم مرة أخرى في “سبحي يا نفسي”:
مثل الأب، يعتني بنا وينقذنا؛
يعرف جيدًا ضعفنا.
بيديه وبكل حنان يحملنا،
وينقذنا من جميع أعدائنا.
لقد اختبر الشاعر اليتيم بشكل عميق أبوة الله إذ كان لديه مثل هذا الأب الأرضي البشع، وفي اختباره لما رآه يعلمنا جانبًا هامًا للغاية من الأبوة الصحيحة.
ألف ضد أربعة
“بطيء الغضب سريع البركة” تعبير مناسب لتكريم أبينا السماوي الذي أظهر نفسه لـ”موسى”، وبمرور الزمن، ظهر كماله في المسيح كـ”إِلهٌ رَحِيمٌ وَرَؤُوفٌ، بَطِيءُ الْغَضَبِ وَكَثِيرُ الإِحْسَانِ وَالْوَفَاءِ. حَافِظُ الإِحْسَانِ إِلَى أُلُوفٍ. غَافِرُ الإِثْمِ وَالْمَعْصِيَةِ وَالْخَطِيَّةِ…” (خروج 6:34ـ7). يقود بالنعمة والرحمة وهو يعلن لنا عن مجده.
لاحظ أنه لم يقل إن أبانا السماوي، في سرعته لمباركة شعبه، لا يغضب أبدًا بل بطيء في الشعور به. “… وَلكِنَّهُ لَنْ يُبْرِئَ إِبْرَاءً. مُفْتَقِدٌ إِثْمَ الآبَاءِ فِي الأَبْنَاءِ، وَفِي أَبْنَاءِ الأَبْنَاءِ، فِي الْجِيلِ الثَّالِثِ وَالرَّابعِ” (خروج 7:34). إلهنا رحيم ورؤوف لكن ليس ضعيفًا. إنه بالفعل يغضب ويوبخ. وعندما يفعل هذا يراعي نسبة غضبه مع بركته التي يمنحها: يغضب إلى “الْجِيلِ الثَّالِثِ وَالرَّابعِ”. لكن يبارك ويحفظ “الإِحْسَانِ إِلَى أُلُوفٍ”. وحتى وقتها، لأننا خطاة، فإن غضبه لا يتعارض مع بركته، لكنه جانبًا حيويًا منها.
يردد مزمور 103 الإعلان الرائع الذي أعطي لـ”موسى” ويضيف رابطة خاصة بالأبوة:
“الرَّبُّ رَحِيمٌ وَرَؤُوفٌ، طَوِيلُ الرُّوحِ وَكَثِيرُ الرَّحْمَةِ
لاَ يُحَاكِمُ إِلَى الأَبَدِ، وَلاَ يَحْقِدُ إِلَى الدَّهْرِ...
كَمَا يَتَرَأَفُ الأَبُ عَلَى الْبَنِينَ يَتَرَأَفُ الرَّبُّ عَلَى خَائِفِيهِ” (مزمور 8:103ـ10 و13)
رغم أنه سيغضب، ورغم أننا سنشعر بوطأة الغضب، إلا أن كلمته الأخيرة لأولاده تكون دائمًا بركة ونعمة وفرحًا:
“لأَنَّ لِلَحْظَةٍ غَضَبَهُ. حَيَاةٌ فِي رِضَاهُ. عِنْدَ الْمَسَاءِ يَبِيتُ الْبُكَاءُ، وَفِي الصَّبَاحِ تَرَنُّمٌ” (مزمور 5:30)
أبونا ونحن الآباء
ماذا يمكن أن تعني هذه النظرة الخاطفة إلى قلب أبينا السماوي ـ بطيء الغضب وسريع البركة ـ بالنسبة للطريقة التي بها نربي ونؤدب أطفالنا ونسعد بهم؟
رؤية مثل تلك لمجد أبينا لا تتكرر فقط في الكتاب المقدس من البداية إلى النهاية بل أيضًا تعلم البشرية معنى الأبوة. إننا كآباء أرضيين نتلقى إشاراتنا من الآب السماوي (أفسس 14:3). في المسيح، على الرغم أننا تشكلنا وتكوننا بطرق متناقضة، إلا أننا نريد أن نصبح “بطيئي الغضب سريعي البركة”. تتماشى هذه الحالة مع رؤية “بولس” الرائعة المكونة من آية واحدة عن تربية الأبناء، والأبوة بصفة خاصة في أفسس 4:6 “وَأَنْتُمْ أَيُّهَا الآبَاءُ، لاَ تُغِيظُوا أَوْلاَدَكُمْ، بَلْ رَبُّوهُمْ بِتَأْدِيبِ الرَّبِّ وَإِنْذَارِهِ”.
من الواضح أن ما يقوله الرسول هنا يتعلق بالأمهات أيضًا، لكنه يخاطب الآباء بصفة خاصة، لأن الأب ليس فقط رب الأسرة بل هو أيضًا من يحمل مسئولية خاصة في تربية الأبناء وإعدادهم لإرسالهم إلى العالم.
أعطينا المسئولية لنبارك
الآباء الأكثر انضباطًا بيننا من الأفضل لهم أن يلاحظوا أن “بولس” لا يختصر المهمة على النحو التالي: “تأكدوا أنكم لا تقيموا السلطة وتمارسوها على أولادكم”. إنه يقصد السلطة الأبوية. إذا وضعنا في الاعتبار السلطة (والقوة) التي لدينا بالفعل كآباء، وبوصية إلهية، فإنه ينبهنا إلى ممارستها بكل حذر مع الحرص على عدم إيذاء أولادنا بقدراتنا الأكبر منهم بل مساعدتهم بدلاً من ذلك.
“لاَ تُغِيظُوا أَوْلاَدَكُمْ”. من جانبنا، يجب ألا نعطي لأولادنا أي سبب وجيه لإثارة غضبهم أو إحباطهم. لا يجب أن نخطئ في حقهم، بل نعاملهم بالفضيلة المسيحية الكاملة، أي بكل اللطف والاحترام اللذين نعامل بهما رفاقنا البالغين، سواء في العمل أو الكنيسة أو الحي. كون الله أعطانا أولادًا وأوصاهم بطاعتنا ليس مبررًا واضحًا لنخطئ في حقهم. بل إنه سبب كاف لبذل كل جهد، مع معونة الله، لمعاملة أولادنا بأقصى درجة من اللطف والاحترام والمحبة.
إذا وضعنا في الاعتبار ضعفهم كأطفال، ودعوتنا كآبائهم، فهم من يجب أن نعاملهم معاملة أفضل من جميع الناس. خطايانا كأشخاص بالغين لها عواقب أخطر بكثير من زلات أولادنا الصغيرة.
معلمون لطفاء وصبورون
لذا يتخذ “بولس” السلطة الأبوية ثم يحرضنا على استخدامها لصالح أبنائنا لا للضرر بهم. ليس السؤال هو هل سيستفز الآباء أولادهم أو سيثيرونهم، لأننا سنفعل هذا. في حضورنا أو غيابنا، بقداستنا أو خطيتنا، من المؤكد أننا سوف نشكل أطفالنا وندفعهم إلى اتجاه معين. السؤال هو هل سندفعهم إلى الغضب أم سنحرضهم على المحبة والأعمال الحسنة (عبرانيين 24:10).
إذًا، ما الذي يمكننا أن نتفاداه ونصلي لتجنبه في أنفسنا؟ كتب أحد المُفسرين “أندرو لنكولن” وقال إن المهمة السلبية الواردة في أفسس 4:6 تتضمن “تجنب تصرفات وأقوال وأفعال من شأنها أن تقود الابن إلى الغضب أو الاستياء، وبالتالي تستبعد التأديب شديد القسوة، والطلبات المغالى فيها، وسوء استخدام السلطة، والتعسف، والظلم، والشكوى والإدانة المستمرة، وإذلال الطفل، وكل أشكال عدم مراعاة مشاعر الطفل واحتياجاته” (أفسس، 406). مع بضع لحظات من التفكير، قد يمكننا جميعًا عمل قوائم مثل هذه. وإذا تذكرنا “لايت”، قد نستبعد الإهمال الذي يُعد وسيلة إغراء كبيرة في أوقات التشتيت المتعددة.
بمعنى آخر، ينبغي على الآباء العمل على إخضاع أولادهم بكل كرامة، كما يطلب “بولس” من الشيوخ في 1 تيموثاوس 4:3. نعرف كلنا أن هناك طرقًا مهينة ومخزية لإخضاع الأبناء، كما توجد طرق مُشرفة. “على عكس مقاييس اليوم” كما كتب “ب. ت. أوبراين”.
يريد “بولس” من الآباء المسيحيين أن يكونوا مربين لطفاء وصبورين مع أبنائهم، و”سلاحهم” الرئيسي هو التربية المسيحية التي ترتكز على الولاء للمسيح كالرب. على الآباء المسيحيين أن يكونوا مختلفين عن المجتمع المحيط بهم (447).
ربما كانت التربية الثقافية المضادة في القرن الأول تعني، بصفة خاصة، سرعة المباركة. قد يتطلب الأمر اليوم القصد والتعمد الثقافي المضاد أي الاستعداد للتوبيخ المخلص، حتى إذا كنا بطيئين فيه، لكن ذلك لا يقلل من محبتنا.
حدود سرعة الأبوة
في محاولتنا لتنمية هذا البُطء المقدس في الغضب والتوبيخ، نتذكر نحن الوالدان، والآباء على الأخص، أننا ليس أكبر من أبنائنا جسديًا فحسب، لكن أيضًا يجب أن نكون أشخاصًا أكبر من أولادنا ـ أي الإنسان الداخلي. كبالغين وآباء، نحن مدعوون إلى أن نكون ناضجين ومتسعي الصدر وصبورين. إن حجمنا وقوتنا الجسدية هما ما يميزنا عن أطفالنا، كذلك يجب نضوجنا العاطفي.
هذا من شأنه أن يقودنا إلى أن نضع في اعتبارنا، على سبيل المثال، أن مستوى الصوت ليس هو أداة التمييز بين الكبار والأطفال. رفع صوتنا ليس قدرة تربوية خاصة، كما يجب أن يكون الصبر مثلاً، والحكمة. ممارسة الصبر المسيحي كآباء لا يعني الفشل في تربية أبنائنا، ولكنه يساعدنا على أن نكون أبطأ في الغضب على عكس طبيعتنا، وعلى التحلي بالحكمة، بالشراكة مع زوجتنا، في استخدام العصا.
كآباء يتلقون إشاراتهم من الآب السماوي، فإننا نجد تحريضًا رائعًا، في كلمات “هنري فرانسيس لايت”، على أن نتحلى بالسرعة في المباركة: سرعة في مدح أطفالنا عندما يطيعون الأوامر بفرح، وسرعة في منحهم اهتمامنا، وسرعة في التعبير عن الثناء والمحبة والرضا، وسرعة في تعليمهم تعليمًا سابق لأوانه، عالمين أن نصيب الأسد من التأديب الأبوي هو التربية الاستباقية وتوقع احتياجاتهم ونقاط ضعفهم. ثم يجب أن نصحح ونقوم. سوف نغضب بالطبع، وسيكون أطفالنا في أتم الاستعداد له عندما نسارع إلى المباركة، مثل أبينا السماوي.
بقلم
“ديفيد ماتيس”
تم ترجمة المقال بالتعاون مع هيئة Desiring God
يمكنك قراءة المقال باللغة الإنجليزية من خلال الضغط على الرابط التالي:
https://www.desiringgod.org/articles/slow-to-chide-swift-to-bless